الجزء الثالث
الكلام في الرؤية
قال أبو محمد: ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان إلى أن الله تعالى لا يرى في الآخرة وقد روينا هذا القول عن مجاهد وعذره في ذلك أن الخبر لم يبلغ إليه وروينا هذا القول أيضاً عن الحسن البصري وعكرمة وقد روي عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى.
وذهبت المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا و الآخرة.
وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة وضرار بن عمرو من المعتزلة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا أصلاً.
وقال الحسن بن محمد النجار: هو جائز ولم يقطع به.
قال أبو محمد: أما قول المجسمة ففاسد بما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين وعمدة من أنكر أن الرؤية المعهودة عندنا لا تقع إلا على الألوان لا على ما عداها البتة وهذا مبعد عن الباري عز وجل.
وقد احتج من أنكر الرؤية علينا بهذه الحجة بعينها وهذا سوء وضع منهم لأننا لم نقل قط بتجويز هذه الرؤية على الباري عز وجل و إنما قلنا أنه تعالى يرى في الآخرة بقوة غير هذه القوة الموضوعة في العين الآن لكن بقوة موهوبة من الله تعالى وقد سماها بعض القائلين بهذا القول الحاسة السادسة وبيان ذلك أننا نعلم الله عز وجل بقلوبنا علماً صحيحاً هذا ما لا شك فيه فيضع الله في الأبصار قوة تشاهد بها الله وترى بها كالتي وضع في الدنيا في القلب و كالتي وضعها الله عز وجل في أذن موسى صلى الله عليه وسلم حتى شاهد الله وسمعه مكلماً له واحتجت المعتزلة بقول الله عز وجل: " لا تدركه الأبصار ".
قال أبو محمد: هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك و الإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة برهان ذلك قول تعالى عز وجل: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ " ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقاً جلياً لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله فلما ترآى الجمعان وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضاً فصمت منهم الرؤية لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم كلا إن معي ربي سيهدين فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا في أن ما نفاه الله تعالى عز وجل فهو غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو قول الله تعالى: " وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة " واعترض بعض المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الحبائي فقال: إن إلى هاهنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم فهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة.
قال أبو محمد: وهذا بعيد لوجهين أحدهما أن الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت له النضرة وهي النعمة والنعمة نعمة فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن ينتظر ما قد حصل لها وإنما ينتظر ما لم يقع بعد والثاني تواتر الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان أن المراد بالنظر هو الرؤية لا ما تأوله المتأولون وقال بعضهم: إن معناها إلى ثواب ربها أي منتظرة ناظرة.
قال أبو محمد: هذا فاسد جداً لأنه لا يقال نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته.
قال أبو محمد: وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع لأن من فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله فإن قال قائل: إن حمل اللفظ على المعهود أولى من حمله على غير المعهود قيل له الأولى في ذلك حمل الأمور على معهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص أو إجماع أو ضررة ولم يأت نص ولا إجماع ولا ضررة تمنع ما ذكرنا في معنى النظر وقد وافقتنا المعتزلة على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير وأنه لا فعال إلا بمعاناة ولا رحيم إلا برقة قلب ثم أجمعوا معنا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير وأنه عز وجل فعال بلا معاناة ورحيم بلا رقة فأي فرق بين تجويزهم ما ذكرناه وبين تجويزهم رؤية و نظراً بقوة غير القوة المعهودة لولا الخذلان ومخالفة القرآن والسنن نعوذ بالله من ذلك.
وقد قال بعض المعتزلة: أخبرونا إذا رؤي الباري أكله يرى أم بعضه.
قال أبو محمد: وهذا سؤال تعلموه من الملحدين إذا سألونا نحن و المعتزلة فقالوا: إذا علمتم الباري تعالى أكله تعلمونه أم بعضه.
قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد مغالط به لأنهم أثبتوا كلاً وبعضاً حيث لا كل ولا بعض و الكل والبعض لا يقعان إلا في ذي نهاية والباري تعالى خالق النهاية والمتناهى فهو عز وجل لا متناه ولا نهاية فلا كل له ولا بعض.
قال أبو محمد: والآية المذكورة والأحاديث الصحاح المأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة القبول لتظاهرها وتباعد ديار الناقلين لها ورؤية الله عز وجل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا الله ذلك بفضله ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب لأن جميع العارفين به تعالى يرونه في الدنيا بقلوبهم وكذلك الكفار في الآخرة بلا شك فإن قال قائل: إنما أخبر تعالى بالرؤية عن الوجه قيل وبالله تعالى التوفيق: معروف في اللغة التي بها خوطبنا أن تنسب الرؤية إلى قال بعض الأعراب: أنافس من ناجاك مقدار لفظة وتعتاد نفسي أن نأت عنك معينها وإن وجوهاً يصطبحن بنظرة إليك لمحسود عليك عيونها
الكلام في القرآن
وهو القول في كلام الله تعالى قال أبو محمد: واختلفوا في كلام الله عز وجل بعد أن أجمع أهل الإسلام كلهم أن لله تعالى كلاماً وعلى أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام وكذلك سائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف فكل هذا لا اختلاف فيه بين أحد من أهل الإسلام ثم قالت المعتزلة إن كلام الله تعالى صفة فعل مخلوق وقالوا أن الله عز وجل كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة وقال أهل السنة أن كلام الله عز وجل هو علمه لم يزل وأنه غير مخلوق وهو قول الإمام أحمد بن حنبل وغيره رحمهم الله وقالت الأشعرية كلام الله تعالى صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله تعالى وأنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد.
قال أبو محمد: واحتج أهل السنة بحجج منها أن قالوا أن كلام الله تعالى لو كان غير الله لكان لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضا فلو كان جسماً لكان في مكان واحد ولو كان ذلك لكنا ولو كان عرضاً لاقتضى حاملاً ولكان كلام الله تعالى الذي هو عندنا هو غير كلامه الذي عند غيرنا وهذا محال ولكان أيضاً يغنى بغناء حامله وهذا لا يقولونه وبالله تعالى التوفيق.
قالوا: ولو سمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى من غير الله تعالى لما كان له عليه السلام في ذلك فضل علينا لأننا نسمع كلام الله عز وجل من غيره فصح أن لموسى عليه السلام مزية على من سواه وهو أنه عليه السلام سمع كلام الله بخلاف من سواه وأيضاً فقد قامت الدلائل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا بمعنى من المعاني فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقاً وجب ضرورة أن يكون كلام الله تعالى ليس مخلوقاً وليس غير الله تعالى - كما قلنا - في العلم سواء بسواء.
قال أبو محمد: وأما الأشعرية فيلزمهم في قولهم أن كلام الله غير الله ما ألزمناهم في العلم وفي القدرة سواء بسواء مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد فخلاف مجرد لله تعالى ولجميع أهل الإسلام لأن الله عز وجل يقول: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " ويقول تعالى: " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ".
قال أبو محمد: ولا ضلال أضل ولا حياء أعدم ولا مجاهرة أطم ولا تكذيب لله أعظم ممن سمع هذا الكلام الذي لا يشك مسلم أنه خبر الله تعالى الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه بأن لله كلمات لا تنفذ ثم يقول هو من رأيه الخسيس أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد فإن ادعوا أنهم فروا من أن يكثروا مع الله أكذبهم قولهم أن هاهنا خمسة عشرة شيئاً كلها متغايرة وكلها غير الله وخلاف الله وكلها لم تزل مع الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال أبو محمد: وقالت أيضاً هذه الطائفة المنتمية إلى الأشعرية أن كلام الله تعالى عز وجل لم ينزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وإنما نزل عليه بشيء آخر هو عبارة عن كلام الله تعالى وأن الذي نقرأ في المصاحف ويكتب فيها ليس شيء منها كلام الله وأن كلام الله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله تعالى لا يزايل الباري ولا يقوم بغيره ولا يحل في الأماكن ولا ينتقل ولا هو حروف موصولة ولا بعضه خير من بعض ولا أفضل ولا أعظم من بعض وقالوا لم يزل الله تعالى قائلاً لجهنم: " هل امتلأت " وقائلاً للكفار " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " ولم يزل تعالى قائلاً لكل ما أراد تكوينه كن.
قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد بلا تأويل وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله أم لا فإن قالوا ليس هو كلام الله كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا بل هو كلام الله سألناهم عن القرآن أهو الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويحفظ في الصدور أم لا! فإن قالوا لا كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد وأقروا أن كلام الله تعالى في المصاحف ومسموع من القراء ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام.
قال أبو محمد: وقال قوم في اللفظ بالقرآن ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون أن الصوت غير مخلوق والخط غير مخلوق.
قال أبو محمد: وهذا باطل وما قال قط مسلم أن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق وأن الخط غير مخلوق.
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق هو ما قاله الله عز و جل ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا نزيد على ذلك شيئاً وهو أن قول القائل القرآن وقوله كلام الله كلاهما معنى واحد واللفظان مختلفان والقرآن هو كلام الله عز وجل على الحقيقة بلا مجاز ونكفر من لم يقل ذلك ونقول أن جبريل عليه السلام نزل بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى على الحقيقة على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " ثم نقول أن قولنا القرآن وقولنا كلام الله لفظ مشترك يعبر به عن خمسة أشياء فنسمي الصوت المسموع الملفوظ به قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى على الحقيقة وبرهان ذلك هو قول الله عز وجل: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وقوله تعالى: " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه " وقوله تعالى: " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " وأنكر على الكفار وصدق مؤمني الجن في قولهم: " إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد " فصح أن المسموع وهو الصوت الملفوظ به هو القرآن حقيقة وهو كلام الله تعالى حقيقة من خالف هذا فقد عاند القرآن ويسمى المفهوم من ذلك الصوت قرآناً وكلام الله على الحقيقة فإذا فسرنا الزكاة المذكورة في القرآن والصلاة والحج وغير ذلك قلنا في كل هذا كلام الله وهو القرآن ونسمي المصحف كله قرآناً وكلام الله وبرهاننا على ذلك قول الله عز وجل: " إنه لقرآن كريم في كتابٍ مكنون " وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الحرب لئلا يناله العدو وقوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة " وكتاب الله تعالى هو القرآن بإجماع الأمة فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المصحف قرآناً والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة فالمصحف كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ونسمي المستقر في الصدور قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى برهاننا على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمر بتعاهد القرآن وقال عليه السلام: " إنه أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقلها " وقال الله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " فالذي في الصدور هو القرآن وهو كلام الله على الحقيقة لا مجازاً ونقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن وأن أم القرآن فاتحة الكتاب لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل مثلها وأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقال الله عز وجل: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " فإن قالوا إنما يتفاضل الأجر على قراءة ذلك قلنا لهم نعم ولا شك في ذلك ولا يكون التفاضل في شيء مما يكون فيه التفاضل إلا في الصفات التي هي أعراض في الموصوف بها وأما في الذوات فلا ونقول أيضا ًأن القرآن هو كلام الله تعالى وهو علمه وليس شيئاً غير الباري تعالى برهان ذلك قول الله عز وجل: " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم " وقال تعالى: " وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته " وباليقين يدري كل ذي فهم أنه تعالى إنما عني سابق علمه الذي سلف بما ينفذه ويقضيه.
قال أبو محمد: فهذه خمسة معان يعبر عن كل معنى منها بأنه قرآن وأنه كلام الله ويخبر عن كل واحد منها إخباراً صحيحاً بأنه القرآن وانه كلام الله تعالى بنص القرآن والسنة للذين أجمع عليهما جميع الأمة وأما الصوت فهو هواء مندفع من الحلق والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامعين وهو حروف الهجاء والهواء.
وحروف الهجاء والهواء كل ذلك مخلوق بلا خلاف قال الله عز وجل: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " وقال تعالى: " بلسان عربي مبين " واللسان العربي ولسان كل قوم هي لغتهم واللسان واللغات كل ذلك مخلوق بلا شك والمعاني المعبر عنها بالكلام المؤلف من الحروف المؤلفة إنما هي الله تعالى والملائكة والنبيون وسموات وأرضون وما فيهما من الأشياء وصلاة وزكاة وذكر أمم خالية والجنة والنار وسائر الطاعات وسائر أعمال الدين وكل ذلك مخلوق حاشا الله وحده لا شريك له خالق كلما دونه وأما المصحف فإنما هو ورق من جلود الحيوان ومركب منها ومن مداد مؤلف من صمغ وزاج وعفص وماء وكل ذلك مخلوق وكذلك حركة اليد في خطه وحركة اللسان في قراءته واستقرار كل ذلك في النفوس هذه كلها أعراض مخلوقة وكذلك عيسى عليه السلام هو كلمة الله وهو مخلوق بلا شك قال الله تعالى: " بكلمة منه اسمه المسيح " وأما علم الله تعالى فلم يزل وهو كلام الله تعالى وهو القرآن وهو غير مخلوق وليس هو غير الله تعالى أصلاً ومن قال أن شيئاً غير الله تعالى لم يزل مع الله عز وجل فقد جعل لله عز وجل شريكاً ونقول أن لله عز وجل كلاماً حقيقة وأنه تعالى كلم موسى ومن كلم من الأنبياء والملائكة عليهم السلام تكليماً حقيقة لا مجازاً ولا يجوز أن يقال البتة أن الله تعالى متكلم لأنه لم يسم بذلك نفسه ومن قال أن الله تعالى مكلم موسى لم ننكره لأنه يخبر عن فعله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله كلاماً لنفي الخرس عنه لما ذكرنا قبل من أنه إن كان يعني الخرس المعهود فإنه لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو حركة اللسان والشفتين وإن كان إنما ينفي خرساً غير معهود فهذا لا يعقل أصلاً ولا يفهم وأيضاً فيلزمه أن يسميه تعالى شماماً لنفي الخشم عنه ومتحركاً لنفي الخدر وهذا كله إلحاد في أسمائه عز وجل لكن لما قال الله تعالى أن له كلاماً قلناه وأقررنا به ولو لم يقله عز وجل لم يحل لأحد أن يقوله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ولما كان اسم القرآن يقع على خمسة أشياء وقوعاً مستوياً صحيحاً منها أربعة مخلوقة وواحد غير مخلوق لم يجز البتة لأحد أن يقول أن القرآن مخلوق ولا أن يقال أن كلام الله مخلوق لأن قائل هذا كاذب إذا أوقع صفة الخلق على ما لا يقع عليه مما يقع عليه اسم قرآن واسم كلام الله عز وجل ووجب ضرورة أن يقال أن القرآن لا خالق له ولا مخلوق وأن كلام الله تعالى لا خالق ولا مخلوق لأن الأربعة المسميات منه ليست خالقة ولا يجوز أن تطلق على القرآن ولا على كلام الله تعالى اسم خالق ولأن المعنى الخامس غير مخلوق ولا يجوز أن توضع صفة البعض على الكل الذي لا تعمه تلك الصفة بل واجب أن يطلق نفي تلك الصفة التي للبعض على الكل وكذاك لو قال قائل أن الأشياء كلها مخلوقة أو قال للحق مخلوق أو قال كل موجود مخلوق لقال الباطل لإن الله تعالى شيء موجود حق ليس مخلوقاً لكن إذا قال الله تعالى خالق كل شيء جاز ذلك لأنه قد أخرج بذكر الله تعالى أن المخلوق في كلامه الأشكال ومثال ذلك في ما بيننا أن ثياباً خمسة الأربعة منها حمر والخامس غير أحمر لكان من قال هذه الثياب حمر كاذباً ولكان من قال هذه الثياب ليست حمراً صادقاً وكذلك من قال الإنسان طبيب يعني كل إنسان لكان كاذباً ولو قال ليس الإنسان طبيباً يعني كل إنسان لكان صادقاً وكذلك لا يجوز أن يطلق أن الحق مخلوق ولا أن العلم مخلوق لأن اسم الحق يقع على الله تعالى وعلى كل موجود واسم العلم يقع على كل علم وعلى علم الله عز وجل وهو غير مخلوق لكن يقال الحق غير مخلوق والعلم غير مخلوق هكذا جملة فإذا بين فقيل كل حق دون الله تعالى فهو مخلوق وكل علم دون الله تعالى فهو مخلوق فهو كلام صحيح وهكذا لا يجوز أن يقال أن كلام الله مخلوق ولا أن القرآن مخلوق ولكن يقال علم الله غير مخلوق وكلام الله غير مخلوق والقرآن غير مخلوق ولو أن قائلاً قال أن الله مخلوق وهو يعني صوته المسموع أو الألف واللام والهاء أو الحبر التي كتبت هذه الكلمة به لكان في ظاهر قوله عند جميع الأمة كافراً ما لم يبين فيقول صوتي أو هذا الخط مخلوق.
قال أبو محمد: فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة الذي لم نتعد فيه ما قاله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأجمعت الأمة كلها على جملته وأوجبته الضرورة والحمد لله رب العالمين فإن سأل سائل عن اللفظ بالقرآن قلنا له سؤالك هذا يقتضي أن اللفظ المسموع هو غير القرآن وهذا باطل بل اللفظ المسموع هو القرآن نفسه وهو كلام الله عز وجل نفسه كما قال تعالى: " حتى يسمع كلام الله " وكلام الله تعالى غير مخلوق لما ذكرنا وأما من أفرد السؤال عن الصوت وحروف الهجا والحبر فكل ذلك مخلوق بلا شك.
قال أبو محمد: ونقول أن الله تعالى قد قال ما أخبرنا أنه قاله وأنه تعالى لم يقل بعدما أخبرنا أنه سيقول في المستأنف ولكن سيقوله ومن تعد هذا فقد كذب الله جهلاً وأما من قال أن الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكل ما كونه أو يريد تكوينه فإن هذا قول فاحش موجب أن العالم لم يزل لأن الله تعالى أخبرنا أنه تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئاً إن يقول له كن فيكون " فصح أن كل مكون فهو كائن إثر قول الله تعالى له كن بلا مهلة فلو كان الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكان كل مكون لم يزل وهذا قول من قال أن العالم لم يزل وله مدبر خالق لم يزل وهكذا كفر مجرد نعوذ بالله منه وقول الله تعالى هو غير تكليمه لأن تكليم الله تعالى من كلم فضيلة عظيمة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى: " منهم من كلم الله " وأما قوله فقد يكون سخطاً قال تعالى أنه قال لأهل النار: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال لإبليس: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " قال اخرج منها ولا يجوز أن يقال إبليس كليم الله ولا أن أهل النار كلماء الله فقول الله عز وجل محدث بالنص وبرهان ذلك أيضاً قول الله تعالى: " إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " ثم قال تعالى أنه قال لهم: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال تعالى أنهم قالوا: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " فنص تعالى على أنه لا يكلمهم وأنه يقول لهم فثبت يقيناً أن قول الله تعالى هو غير كلامه وغير تكليمه لكن يقول كل كلام وتكليم فهما قول وليس كل قول منه تعالى كلاماً ولا تكليماً بنص القرآن ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى أخبرنا أنه كلم موسى وكلم الملائكة عليهم السلام وثبت يقيناً أنه كلم محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وقال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله " فخص الله تعالى بتكليمه بعضهم دون بعض كما ترى وقال تعالى: " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء " ففي هذه الآيات والحمد لله أكبر نص على تصحيح كل ما قلناه في هذه المسئلة وما توفيقنا إلا بالله وأخبرنا تعالى في هذه الآية أنه لا يكلم بشراً إلا بأحد هذه الوجوه الثلاثة فقط فنظرنا فيها فوجدناه تعالى قد سمى ما تأتينا به الرسل عليهم السلام تكليماً انتقل منه للبشر فصح بذلك أن الذي أتتنا به رسله عليهم السلام هو كلام الله وأنه تعالى قد كلمنا بوحيه الذي أتتنا به رسله عليهم السلام وأننا قد سمعنا كلام الله عز وجل الذي هو القرآن الموحى إلى النبي بلا شك والحمد لله رب العالمين.
ووجدناه تعالى قد سمى وحيه إلى أنبياءه عليهم السلام تكليماً لهم ووجدناه عز وجل قد ذكر وجهاً ثالثاً وهو التكليم الذي يكون من وراء حجاب وهو الذي فضل به بعض النبيين على بعض وهو الذي يطلق عليه تكليم الله عز وجل دون صلة كما كلم موسى عليه السلام " من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة " وأما القسمان الأولان فإنما يطلق عليهما تكليم الله عز وجل بصلة لا مجرداً فنقول: كلم الله جميع الأنبياء بالوحي إليهم ونقول: في القسم الثاني كلمنا الله تعالى في القرآن على لسان نبيه عليه السلام بوحيه إليه ونقول: قال لنا الله عز وجل " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " ونقول: أخبرنا الله تعالى عن موسى وعيسى وعن الجنة والنار في القرآن وفيما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولو قال قائل: حدثنا الله تعالى عن الأمم السالفة وعن الجنة والنار في القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لكان قولاً صحيحاً لا مدفع له لأن الله تعالى يقول: " ومن أصدق من الله حديثاً " وكذلك يقول قص الله علينا أخبار الأمم في القرآن قال تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " ونقول: سمعنا كلام الله تعالى في القرآن على التحقيق لا مجازاً وفضل علينا الملائكة والأنبياء عليهم السلام في هذا بالوجه الثاني الذي هو تكليمهم بالوحي إليهم في النوم واليقظة دون وسيطة ملك لكن بكلام مسموع بالآذان معلوم بالقلب زائد على الوحي الذي هو معلوم بالقلب فقط أو مسموع من الملك عن الله تعالى وهذا هو الوجه الذي خص به موسى عليه السلام من الشجرة ومحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من المستوا الذي سمع فيه صريف الأقلام وسائر من كلم الله تعالى كذلك من النبيين والملائكة عليهم السلام قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل " ولا يجوز أن يكون شيء من هذا بصوت أصلاً لأنه كان يكون حينئذ يفيد بوسيطة مكلم غير الله تعالى وكان ذلك الصوت بمنزلة الرعد الحادث بالجو والقزع الحادث في الأجسام والوحي أعلى من هذه منزلة والتكليم من وراء حجاب أعلى من سائر الوحي بنص القرآن لأن الله تعالى سمى ذلك تفضيلاً كما تلونا وكل ما ذكرنا وإن كان يسمى تكليماً فالتكليم المطلق أعلى في الفضيلة من التكليم الموصول كما أن كل روح فهو روح الله تعالى على الملك لكن إذا قلنا روح الله على الإطلاق يعني بذلك جبريل أو عيسى عليهم السلام كان ذلك فضيلة عظيمة لهما.
قال أبو محمد: وإذا قرأنا القرآن قلنا كلامنا هذا هو كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ولا يحل حينئذ لأحد أن يقول ليس كلامي هذا كلام الله تعالى وقد أنكر الله عز وجل هذا على من قاله إذ يقول تعالى: " سأرهقه صعوداً أنه فكر وقدر فقتل كيف قدر " إلى قوله تعالى فقال: " إن هذا إلا سحر يؤثر أن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر ".
قال أبو محمد: وكذلك يقول أحدنا ديني دين محمد صلى الله عليه وسلم وإذا عمل عملاً أوجبته سنة قال عملي هذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحل لأحد من المسلمين أن يقول: ديني غير دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قال ذلك لوجب قتله بالردة وكذلك ليس له أن يقول إذا عمل عملاً جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا غير عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قاله لأدب ولكان كاذباً وكذلك يقول أحدنا ديني هو دين الله عز وجل يريد الذي أمر به عز وجل ولو قال ديني غير دين الله عز وجل لوجب قتله بالردة وكذلك يقول إذا حدث أحدنا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا ًكلامي هذا هو نفس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قال إن كلامي هذا هو غير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان كاذباً وهذه أسماء أوجبتها ملة الله عز وجل وأجمع عليها أهل الإسلام ولم يخف علينا ولا على من سلف من المسلمين أن حركة لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير حركة ألسنتنا وكذلك حركة أجسامنا في العمل وكذلك ما توصف به النفوس من العلم ولكن التسمية في الشريعة ليست إلينا إنما هي لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فمن خالف هذا كان كمن قال فرعون وأبو جهل مؤمنان وموسى ومحمد كافران فإذا قيل له في ذلك قال أو ليس أبو جهل وفرعون مؤمنين بالكفر ومحمد وموسى كافران بالطاغوت فهذا وإن كان لكلامه مخرج فهو عند أهل الإسلام كافر لتعديه ما أوجبته الشريعة من التسمية وقد شهدت العقول بوجوب الوقوف عند ما أوجبه الله تعالى في دينه فمن عد عن ذلك وزعم أنه اتبع دليل عقله في خلاف ذلك فليعلم أنه فارق قضية العقل الصادقة الموجبة للوقوف عند حكم الشريعة وخالف المؤمنين واتبع غير سبيلهم قال تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " نعوذ بالله من ذلك.
قال أبو محمد: قال بعضهم فإذا سمعنا نحن كلام الله تعالى وسمعه موسى عليه السلام فأي فرق بينه وبيننا قلنا أعظم الفرق وهو أن موسى والملائكة عليهم السلام سمعوا الله تعالى يكلمهم ونحن سمعنا كلام الله تعالى من غيره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبن مسعود إذ أمره أن يقرأ عليه القرآن فقال له ابن مسعود: يا رسول الله أقرأه عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فصح يقيناً أن القرآن الذي أنزله الله تعالى نفسه فسمعه من غيره وقالوا فكلام الله تعالى إذاً يحل فينا قلنا هذا تهويل بارد ونعم إذا سمى الله تعالى كلامنا إذا قرأنا كلاماً له تعالى فنحن نقول بذلك ونقول أن كلام الله في صدورنا وجار على ألسنتنا ومستقر في مصاحفنا ونبرأ ممن أنكر ذلك بقوله الفاسد المخرج له عن الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان.
الكلام في إعجاز القرآن
قال أبو محمد: قد ذكرنا قيام البرهان عن أن القرآن معجز قد أعجز الله عن مثل نظمه جميع العرب وغيرهم من الإنس والجن بتعجيز رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من ذكرنا عن أن يأتوا بمثله وتبكيتهم بذلك في محافلهم وهذا أمر لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر وأجمع المسلمون على ذلك ثم اختلف أهل الكلام في خمسة أنحاء من هذه المسالة فالنحو الأول قول روي عن الأشعري وهو أن المعجز الذي تحدى الناس بالمجيء بمثله هو الذي لم يزل مع الله تعالى ولم يفارقه قط ولا نزل إلينا ولا سمعناه وهذا كلام في غاية النقصان والبطلان إذ من المحال أن يكلف أحد أن يجيء بمثل لما لم يعرفه قط ولا سمعه وأيضا ًفيلزمه ولا بد بل هو نفس قوله أنه إذا لم يكن المعجز إلا ذلك فإن المسموع المتلو عندنا ليس معجزاً بل مقدوراً على مثله وهذا كفر مجرد لا خلاف فيه لأحد فإنه خلاف للقرآن لأن الله تعالى ألزمهم بسورة أو عشر سور منه وذلك الكلام الذي هو عند الأشعري هو المعجز ليس له سوراً ولا كثيراً بل هو واحد فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين.
وله قول آخر كقول جميع المسلمين إن هذا المتلو هو المعجز والنحو الثاني هل الإعجاز متماد أم قد ارتفع بتمام الحجة به في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض أهل الكلام أن الحجة قد قامت بعجز جميع العرب عن معارضته ولو عورض الآن لم تبطل بذلك الحجة التي قد صحت كما أن عصا موسى إذ قامت حجته بانقلابها حية لم يضره ولا أسقط حجته عودها عصا كما كانت وكذلك خروج يده بيضاء من جيبه ثم عودها كما كانت وكذلك سائر الآيات وقال جمهور أهل الإسلام أن الإعجاز باق إلى يوم القيامة والآية بذلك باقية أبداً كما كانت.
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره لأنه نص قول الله تعالى إذ يقول: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ".
قال أبو محمد: فهذا نص جرى على أنه لا يأتون بمثله بلفظ الاستقبال فصح يقيناً أن ذلك على التأبيد وفي المستأنف أبداً ومن ادعى أن المراد بذلك الماضي فقد كذب لأنه لا يجوز أن تحال اللغة فينقل لفظ المستقبل إلى معنى الماضي إلا بنص أخر جلي وارد بذلك أو بإجماع متيقن أن المراد به غير ظاهره أو ضرورة ولاسبيل في هذه المسألة إلى شيء من هذه الوجوه وكذلك قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا " عموم لكل إنس وجن أبداً لا يجوز تخصيص شيء من ذلك أصلاً بغير ضرورة ولا إجماع.
قال أبو محمد: ومن قال بالوقف وأنه ليس للعموم صيغة ولا للظاهر فلا حجة هاهنا تقوم له على الطائفة المذكورة فصح أن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة والحمد لله رب العالمين.
والنحو الثالث ما المعجز منه أنظمه أم في نصه من الإنذار بالغيوب فقال بعض أهل الكلام أن نظمه ليس معجزاً وإنما إعجازه ما فيه من الأخبار بالغيوب وقال سائر أهل الإسلام بل كلا الأمرين معجز نظمه وما فيه من الأخبار بالغيوب وهذا هو الحق الذي ما خالفه فهو ضلال وبرهان ذلك قول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " فنص تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره واكثر سوره ليس فيها أخبار بغيب فكأن من جعل المعجز الأخبار الذي فيه بالغيوب مخالفاً لما نص الله تعالى على أنه معجز من القرآن فسقطت والنحو الرابع ما وجه إعجازه فقالت طائفة وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة وقالت طوائف إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على معارضته فقط فأما الطائفة التي قالت إنما إعجازه لأنه في أعلى درج البلاغة فإنهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " ونحو هذا وموه بعضهم بأن قال لو كان كما تقولون من أن الله تعالى منع من معارضته فقط لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ.
قال أبو محمد: ما نعلم لهم شغباً غير هذين وكلاهما لا حجة لهم فيه أما قولهم لو كان كما قلنا لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة أبلغ فهذا هو الكلام الغث حقاً لوجوه أحدها أنه قول بلا برهان لأنه يعكس عليه قوله بنفسه فيقال له بل لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود فهذا أقوى من شغبهم.
وثانيها أنه لا يسأل الله تعالى عما يفعل ولا يقال له لم عجزت بهذا النظم دون غيره ولم أرسلت هذا الرسول دون غيره ولم قلبت عصا موسى حية دون أن تقلبها أسداً وهذا كله حمق ممن جاء به لم يوجبه قط عقل وحسب الآية أن تكون خارجة عن المعهود فقط.
وثالثها أنه حين طردوا سؤالهم ربهم بهذا السؤال الفاسد لزمهم أن يقولوا هلا كان هذا الإعجاز في كلام بجمع اللغات فيستوي في معرفة إعجازه العرب والعجم لأن العجم لا يعرفون إعجاز القرآن إلا بأخبار العرب فقط فبطل هذا الشغب الغث والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وأما ذكرهم " ولكم في القصاص حياة " وما كان نحوها من الآيات فلا حجة لهم فيها ويقال لهم: إن كان كما تقولون ومعاذ الله من ذلك فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات خاصة وأما سائره فلا وهذا كفر لا يقوله مسلم فإن قالوا جميع القرآن مثل هذه الآيات في الإعجاز قيل لهم فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذاً وهل هذا منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزاً وغير معجز ثم نقول لهم قول الله تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " أمعجز هو على شروطكم في كونه في أعلى درج البلاغة أم ليس معجزاً فإن قالوا ليس معجزاً كفروا وإن قالوا أنه معجز صدقوا وسألوا هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة فإن قالوا نعم كابروا وكفوا مؤنتهم لأنها أسماء رجال فقط ليس على شروطكم في البلاغة فلو كان إعجاز القرآن لأنه في درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هرون والجاحظ وشعر أمرئ القيس ومعاذ الله من هذا لأن كل ما يسبق في طبقته لم يؤمن إن يأتي من يماثله ضروة فلا بد لهم من هذه الخطة أو من المصير إلى قولنا أن الله تعالى منع من معارضته فقط وأيضاً فلو كان إعجازه من أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك الآية ولما هو أقل من آية وهذا ينقض قولهم أن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل فإن قالوا فقولوا أنتم هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا قلنا وبالله تعالى التوفيق إن كنتم تريدون أن الله قد بلغ به ما أراد فنعم هو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها وإن كنتم تريدون هل هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين فلا لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه وبرهان هذا أن إنساناً لو أدخل في رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجاً عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلاً وأن الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق برهان ذلك أن الله حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار " لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين " وحكى تعالى عن كافر قال: " إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر " وحكى عن آخرين أنهم قالوا: " لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ " فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز وجل معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاماً له أصاره معجزاً ومنع من مماثلته وهذا برهان كافٍ لا يحتاج إلى غيره والحمد لله.
والنحو الخامس ما مقدار المعجز منه فقالت الأشعرية ومن وافقهم أن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة منه وهو إنا أعطيناك الكوثر فصاعداً وإن ما دون ذلك ليس معجزاً واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " قالوا ولم يتحد تعالى بأقل من ذلك وذهب سائر أهل الإسلام إلى أن القرآن كله قليله وكثيره معجز وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا حجة لهم في قوله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " لأنه تعالى لم يقل إن ما دون السورة ليس معجزاً بل قد قال تعالى على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولا يختلف اثنان في أن كل شيء من القرآن قرآن فكل شيء من القرآن معجز ثم تعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا فنقول أخبرونا ماذا تعنون بقولكم أن المعجز مقدار سورة أسورة كاملة لا أقل أم مقدار كوثر في الآيات أم مقدارها في الكلمات أم مقدارها في الحروف ولا سبيل إلى وجه خامس فإن قالوا المعجز سورة تامة لا أقل لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من آخرها أو من أولها ليست معجزة وهكذا كل سورة وهذا كفر مجرد لا خفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها من آخرها فمقدور على مثلها وإن قالوا بل مقدارها من الآيات لزمهم أن آية الدين ليست معجزة لأنها ليست ثلاث آيات ولزمهم مع ذلك أن والفجر وليال عشر والشفع والوتر معجز كآية الكرسي وآيتان إليها لأنها ثلاث آيات وهذا غير قولهم ومكابرة أيضاً أن تكون هذه الكلمات معجزة حاشا كله غير معجزة ولزمهم أيضاً أن والضحى والفجر والعصر هذه الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهن ثلاث آيات فإن قالوا هن متفرقات غير متصلات لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آية متفرقة وإمكان المجيء بمثلها ومن جعل هذا ممكناً فقد كابر العيان وخرج عن الإسلام وأبطل الإعجاز عن القرآن وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه ولزمهم أيضاً أن " ولكم في القصاص حياة " ليس معجزاً وهذا نقض لقولهم في أنه في أعلى درج البلاغة وكذلك كل ثلاث آيات غير كلمة وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول وإن قالوا بل في عدد الكلمات أو قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم أحدهم إبطال احتجاجهم بقوله تعالى: " بسورة من مثله " لأنهم جعلوا معجزاً ما ليس سورة ولم يقل تعالى بمقدار سورة فلاح تمويههم والثاني أن سورة الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفاً وقد قال تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفاً وإن اقتصرنا على الأسماء فقط كانت عشر كلمات اثنين وستين حرفاً فهذا أكثر كلمات وحروفاً من سورة الكوثر فينبغي أن يكون هذا معجزاً عندكم ويكون " ولكم في القصاص حياة " غير معجز فإن قالوا إن هذا غير معجز تركوا قولهم في إعجاز مقدار أقل سورة في عدد الكلمات وعدد الحروف وإن قالوا بل هو معجز تركوا قولهم في أنه في أعلى درج البلاغة ويلزمهم أيضاً أننا إن أسقطنا من هذه الأسماء اسمين ومن سورة الكوثر كلمات أن لا يكون شيء من ذلك معجز فظهر سقوط كلامهم وتخليطه وفساده وأيضاً فإذا كانت الآية منه أو الآيتان غير معجزة وكانت مقدوراً على مثلها وإذا كان ذلك فكله مقدور على مثله وهذا كفر فإن قالوا إذا اجتمعت ثلاث آيات صارت غير مقدور عليها قيل لهم هذا غير قولكم إن إعجازه إنما هو من طريق البلاغة لأن طريق البلاغة في الآية كهو في الثلاث ولا فرق والحق من هذا هو ما قاله الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " وإن كل كلمة قائمة المعنى يعلم إذا تليت أنها من القرآن فإنها معجزة لا يقدر أحد على المجيء بمثلها أبداً لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك كمن قال إن آية النبوة إن الله تعالى يطلقني على المشي في هذا الطريق الواضحة ثم لا يمشي فيها أحد غيري أبداً أو مدة يسميها فهذا أعظم ما يكون من الآيات وإن الكلمة المذكورة أنها متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآناً فهي غير معجزة وهذا هو الذي جاء به النص والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعمائة عام وأربعين عاماً ونحن نجد في القرآن إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما كقوله تعالى " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا في صدر ومثل هذا في القرآن كثير والحمد لله رب العالمين.